قصة سفينة نوح
محتويات المقال
قصة سفينة نوح
أكتبُ تلك القصة من على سفينة نوح الفضائية وسوف أحكي لكم قصتي التي لم تبدأ بعد.
قصة سفينة نوح |
أنا أُدعى (نوح إبراهيم) فتى بعمر الأربعة عشر عام، أعيشُ مع والدي الذي يعمل عالم فيزيائي بإحدى وكالات الفضاء، لقد غادرتنا أمي منذِ أول يوم لي على الأرض، فأنا لا أعرف ملامحها سوى بالصور فقط ولم أنعم بسماع صوتها أو النوم بين ذراعيها، لدي البعض من الأقارب والقليل من الأصدقاء، يسكنُ بجواري صديقي (أمير) فهو صديقي الصدوق، يعيش مع والدته، فلقد فقدَ والده في حادثٍ ما.
لم تحدث أي أحداث مهمة في حياتي حتى ذلك اليوم عندما أمسكتُ هاتفي وقُمت بالتصفح على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) لأرى خبرًا ليس بجديدٍ على عيني وكان "اقتراب موعد نهاية الأرض" ومن بعدها بدأت تظهر أكثر من صفحة أمامي تُعلن ذلك الخبر بأشكال مختلفة مثل: " اصطدام نيزك بالأرض"، "نهاية عام ٢٠٦١"، ذهبتُ لوالدي لأخبره عما رأيت، فتبسمَ وقال: لا تقلق يا نوح فهذه الأخبار كانت شائعة جدًا من قبل ولادتي حتى، اطمئن، أتخاف وأنا معك؟، لا تقلق ستُكذب الوكالات الفضائية ذلك الخبر كالمعتاد.
ذهبتُ بعدها لأطمئن على صديقي (أمير) فأخبرني أنه قرأ تلك الأخبار أيضًا، فقُلت له كما قالي لي والدي أنه لا يقلق تلك الأخبار هي مجرد إشاعات لا أكثر.
لم تحدث جلبة بشأن الخبر فالجميع لم يصدُر أي أهمية فقد اعتادوا على هذه الأخبار.
ولكن تلكَ المرة كانت مختلفة، ففي اليوم التالي قد جاء أتصال هاتفي لأبي وبعد الانتهاء منه كان غاضب بعض الشيء،
دخلتُ لأبي بالمكتب لأسأله ما بهِ فقال لي: لا تشغل عقلك يا نوح فذلك كانَ جدال بخصوص العمل لا أكثر.
ذهبتُ لغرفتي أتساءل ما الذي يُخبئه عني؟ أهذا له علاقة بذلك الخبر؟.
تمرُ الأيام وأبي ماكث أغلب الأيام داخل ورشته خلف منزلنا، كانَ لا ينام وبالكاد يتذكر موعد الطعام، كنتُ في ريبة من هذا الأمر، فهذه ليست بعادته، ما الذي يحدث؟ فقررتُ حينها أن أتسلل إلى الورشة ليلًا لأرى ما الذي يُخبئه والدي عني، وبالفعل ذهبتُ ليلًا إلى الورشة لأرى كم هائل من الخرائط والمخططات والرسومات وجميعها تدُل على شيءٍ واحد؛ أبي يصنع شيء متعلق بالسفن أو المركبات أو المكوك الفضائي، كل ما كانَ يشغل عقلي حينها هل يفعل ذلك من أجل عمله أم من أجل…
وضعتُ كل شيء مكانه وذهبتُ لغرفتي تتخبطُ الأفكار بداخل عقلي ويخفق قلبي بشدة من القلق، جاءَ صباح اليوم التالي مُعلنًا أهم خبر بحياتي، ذلك الخبر الذي ليس فقط هدم حياتي التي لم تبدأ، بل سيهدم كل شيء وسيأخذ كل ما هو موجود على وجه الأرض إذا لم يأخذ الأرض بذاتها.
فتحتُ التلفاز لأرى مذيع مشهور على إحدى القنوات العالمية يذيع نبأ عاجل: اقتراب نيزك ضخم لكوكب الأرض وعندما أكمل قرأته للبيان قال: وتقول وكالة الأنباء الفضائية أيضًا أنه غير معلوم حاليًا إن كانَ مسار النيزك متجه للأرض ليغزوها أم لا.
أُشاهد هذا الخبر وكلي رجاء أن يكون غير حقيقي، قُمت مُسرعًا لأبي فرأيته يبكي فقُلت له: أبي أسمعت ذلك الخبر؟ هل هذا صحيح؟
فقال لي بنبرة حزن وضعف: نعم صحيح نهاية الأرض تقترب، واجهش في البكاء
فقُلت له: وهل سنموتُ جميعًا؟
فضمني إلى صدره قائلًا لي: لا لن أدع شيء يؤذيك أنتَ كُل ما لدي.
فقُلت له: لذلك تبني ذلك الشيء، وهل تظنُ أننا سنستطيع الخروج من الأرض أحياء؟ وهل سنخرج وحدنا، فلدينا أقارب وأصدقاء وجيران، لدينا حياة على الأرض فكيف لنا ترك كل شيء والهرب بمفردنا؟
فقال لي بنبرة غضب وبانفعال: إن لم نفعل فلن ننجو، ألا تثق بي؟
فقُلت له: الأمر ليس له علاقة بالثقة فهذه ستكون أنانية مِنا أن نترُك كل ما لنا ونهرُب.
فأمسكَ على يدي بقسوة قائلًا: هذه ليست أنانية، هذه تُسمى غريزة البقاء.
نظرتُ له والدموع تسيل من عيناي، وذهبتُ لأرى صديقي (أمير) فعندَ خروجي من المنزل رأيته يركض بعيدًا عن منزله وتركض خلفه والدته ويصرخ في وجهِها قائلًا: لا أريد الرحيل لا أريد الموت؛ فتضمه بين ذراعيها وتقول له: فلتهدأ يا بُني لن يحدث مكروهٌ لك، ولكن اسمع مني، ألن تشتاقُ إلى والدك، ألم تخبرني أمس أنك قد رأيته بمنامِك، ألم تُخبرني أنك مشتاقٌ له وتُريد أن تراه؟، أتعلم إن كتبَ لنا الله شيء سنراه وحتمًا سيقع علينا، فيا أمير إن كتبَ الله لنا الرحيل إلى مكانٍ أفضل وأجمل ويوجد به أباك أسترفض؟
فقال: أهل صحيح هل تقولين الحقيقة؟
فقالت له: نعم فهل كذبت عليك من قبل بشيء؟
فأردفَ عليها قائلًا: هل سنشعر بآلام؟
فقالت له: أتدري كيف يُشبه الرحيل؟ أنه أشبه بالخلود للنوم والغوص في حلمٍ جميل.
فأخذته وعادت به إلى المنزل فنظرته لهما في حسرةٍ قائلًا: لنفسي
هل هذا الكلام صحيح؟
أعلمُ أن حياتي لم تبدأ بعد، حتى أحلامي المكتوبة بداخل دفتري لم أحقق منها شيء، فأنا حقًا مُشتاقٌ لأمي؛ كي أُلقي بنفسي داخل أحضانِها واختبئ بداخلها، فقط كي أهرب من كل ذلك الخوف المحيط بي.
ذهبتُ إلى ورشة أبي قائلًا له: منذُ متى تعرف بالأمر يا أبي؟
فقال لي: منذُ عدة أشهُر
فقُلت له: وهل هذا شيء استطعت أن تُخبئه علي، أنا لم أعد طفلٌ صغير يا أبي.
فقال لي بنبرة حزينة: ماذا كنتُ تُريد مني أن أفعل؟ أن أقول لك نوح يا صغيري حياتك التي لم تبدأ بعد ستنتهي بعد فترة قصيرة؟ لقد كنتُ عاجزًا.
فقُلت له: وأنا أيضًا عاجز حاليًا، فلا أستطيع التفكير بشيء؛ فلا أريد سوى أمي.
فنظر لي أبي نظره تعجب! قائلًا لي: لقد جعلتني الآن أشعر أنني لم أكن كافيًا لك يا نوح، أنا أفعل كل ذلك من أجلك، أنا أُخالف قوانين عملي لأفعل شيء ينقذنا، وأخيرًا دعني أخبرك بما سيحدث عند انتهاء كل شيء، ستذهب معي من هُنا عما قريب ولا جدال في ذلك، هيا الآن إلى غرفتك.
نظرتُ له نظرة غضب ولم أتفوه بكلمة واحدة؛ فقط صعدتُ لغرفتي وظللت أبكي طوال الليل.
وبعد عدة أيام استيقظتُ على ضجيج عالي خارج منزلي، ذهبت إلى شرفة غرفتي لأرى رياحٍ عاصفةٍ شديدة، لا أعلم من أين جاءت، وكانت السماء بلون الدم وكأنه يحدث انفجار بها، أنقلب كل شيء رأسًا على عقب، فنادى علي والدي بصوتٍ عالي: هيا يا نوح تعال إلى هُنا هيا أسرع.
فذهبتُ له فأخذني وصعدنا إلى السيارة، فقُلت له: إلى أين نذهب؟
فقال لي: إلى المعمل فقد حان موعد انطلاقنا.
أرى من خلف زجاج السيارة كم هائل من الغُبار والدُخان ورياح شديدة؛ فتتطاير الأشياء في الهواء، كانَ الهواء شديد الحرارة وكانت السماء شديدة الاحمرار؛ كنتُ خائفًا جدًا فهل اصطدام النيزك بالأرض أم ماذا يحدث؟
حتى المارة بالشوارع منهم من يهرب إلى بيته ومنهم من يخرج من منزله يهرول بالشارع، حتى أنني رأيت بعضًا منهم يختبئ في قبو منزله، حتى الأطفال تبكي وتصرخ من الخوف، كُل ذلك العبس أراه من خلف زجاج سيارتنا.
ذهبنا للمعمل فإذا فجأةً أرى شيء ضخم أشبه بصاروخ يطلقون عليه مكوك فضائي، مركبة فضائية، سفينة فضائية، أي إن كان المُسمى.
ولا أعلم ماذا سيحدث لنا، لم يكن أحدًا غيرنا أنا وأبي، تذكرتُ حينها أمير ووالدته؛ فأخذتُ هاتف والدي دونَ علمه وقُمت بالاتصال لأخبرهم عن مكاننا حتى يأتون إلينا، وبالفعل بعد عدة دقائق جاء أمير ووالدته فتفاجأ أبي قائلًا لهم: لماذا جِئتم إلى هُنا؟ مَن الذي أخبركم بمكانِنا؟
فقالت والدة أمير: لقد أخبرنا نوح أنك باستطاعتك انقاذنا من هذه الكارثة.
فقال لها أبي بانفعال: لا أستطيع فذلك الشيء لن ينطلق المكوك مع كُل هذا العدد فهذه ستكون حمولة ذائدة.
فأجهش أمير في البكاء وقال: لا، أنا لا أريد الذهاب دونَ أمي.
فقُلت لأبي: كيف لك أن تفعل ذلك!؟، هيا يا أبي أنتَ لستُ ما عليه الآن، أنتَ لستُ على سجيتك، أعلمُ أنك تريد انقاذنا جميعًا إن استطعت، ولكن تركهم هُنا ليلقوا مصيرهم شيء غير أدمي وأنت لستُ هكذا.
فقالت والدة أمير: إن كان ولابُد أن تأخذ أحدًا فأنقذ أمير.
بدأت الأرض من أسفل أقدامنا بالاهتزاز وكأنه زلزال قوي قيد التشغيل، فتح لنا أبي تلك السفينة وأدخلني بداخلها وأخذ أمير معنا، فنظر أبي إلى والدة أمير وقال: يجب على واحدٍ مِنا الصعود والآخر البقاء، حينَ طرقت تلك الكلمات على مسامعي أنهرتُ وانهمرتُ بالبكاء، فكيف السبيل إذًا هل أترُك أبي؟
أم نتخلى عن والدة أمير؟
فإذا بوالدة أمير تنزع قلادتها من عُنقها وتُعطيها لوالدي وتخبره: أن لا يترك أمير أبدًا وأنَ أمير الآن أبنه الثاني، رحلت أمام عيني، ذهبت لتلقي مصيرها ذهبت وتركت جزءًا منها معنا.
دخل أبي إلى السفينة وقام بتشغيلها كان شعور لا يوصف، خوفًا ممزوج برهبة، وصدمة، ذلك المنظر ونحنُ جالسين على مقاعد مُحكمة مُرتديين ملابس غريبة، فمن هول المنظر فقدتُ الوعي، ولا أعرف ماذا حدث بعدها ولكن أخر مشهد هو احتراق كل شيء، لا أعلم كم من الوقت ظللتُ فاقد الوعي ولكن عندما استيقظت رأيت أبي أمامي وكانَ أمير نائمًا وكل شيء حولي في ظلامٍ وسكون.
فقالَ لي والدي: لا تقلق يا نوح نحنُ بأمان، فقد انطلقت بنا السفينة وخرجنا بحمد الله من غلاف الكرة الأرضية ونحنُ الآن بالفضاء.
نزع لي أبي تلك الأحزمة المثبتة بالمقعد لأرى من نافذة السفينة كل ما لم أتخيله أبدًا، أرى الأرض من بعيد وكأنها تنكمش ببعضها وكأنها تتلاشى بالفضاء، كل شيء أصبح رماد، الأرض بكل من عليها، الجميع قد هوى الآن بالفضاء مثلنا هائمين لا نعرف أين سنكون، كل ما كنتُ أريده هو قلم ودفتر فقط لا شيء أخر، كانَ ولابد أن أبوح بكل شيء لهما، فبعد رؤيتي للفضاء الفسيح وكم النجوم الهائل بالسماء، أخذني والدي وقالي لي: تعال يا نوح لِأُريك شيء، فإذا بشيء أشبه بالفراش، فقُلت له: ما هذا يا أبي؟.
فقال لي: هذا كالفراش ولكنها تسمي حجرة ثبات.
فقُلت له: ولكن نحنُ ثلاثة أشخاص وتلك حجرة واحدة!؟
فقال والدموع في عينيه: نعم أعلم، فواحدٍ منكم سينام فيها والآخر سيبقى معي.
فقُلت له: بالطبع سينام أمير أنا لن أُفارقك أبدًا.
فقال لي: ولكن يا بني هذه سفينتك فأنا أسميتُها سفينة نوح، فهي تحمل الناجين الأوحدين من الأرض، أنت وأمير، ستستبدلون أدواركم في حجرة الثبات.
فقُلت له: حسنًا سيدخل أمير أولًا لينام فيها فأنا لا أريد النوم الآن.
فتبسم أبي والدموع تنهمر من عينيه وقال: أتظنُ أنها حجرة ثبات تستطيع الذهاب إلى النوم بداخلها متى شئت، لا يا بُني أنها شيء آخر فهي لها توقيت معلوم
فقُلت له: حسنًا إذًا ضع أمير فأنا سأبقى معك.
أَدخلَ والدي أمير في حجرة الثبات وجلست معه فقُلت له: أريد أن أخبرك بشيء
فقال لي: أسمعك.
فقُلت له: أنا حقًا أعتذر عما بدرَ مني من أفعالٍ؛ فأنا خائف وما زلت، ولكن أنتَ بعيني بطلٌ يا أبي، وأنا أحبك كثيرًا، وأريدك أن تعلم أنك كنتُ بكافيٍ لي طوال حياتي، وكم هو أمرٍ رائع أنك تكون أبي.
فقال لي: وأنا أيضًا أحبك وكم أنا فخور بك، وكم هو أمرٍ رائع أن تكون أنتَ طفلي الأوحد.
وضعني أبي بين ذراعيه وقبّلَ جبيني، وقالي لي: لا تقلق أنا معك وسأظلُ دومًا، وأغمضتُ عيناي ونمتُ في ثبات ولم أشعر بأي شيء بعدها، ولا أعلم كم من الوقت قد مر.
استيقظت ناظرًا حولي فإذا بأبي ممسكًا بكوبٍ من الحليب قائلًا: صباح الخير يا نوح هيا أفيق لا نريد التأخر على حافلة المدرسة.
فقُلت له في تعجب!: حافلة مدرسة؟ أين نحن يا أبي؟
فقال لي: أين سنكون نحن بالبيت!؟
فقُلت له في صدمةٍ!: بيت!؟.
فضحك لي وقال: لا، بيت الجيران، نعم بيتنا أكنتُ تحلم يا فتى!؟
فقُلت له: حُلم! هل كل ما عيشته كانَ حُلم؟ هل كل ما حدثَ لنا وكل ما رأيته حُلم؟ لا أنه كابوس، قُمت مُسرعًا خارج منزلنا لأرى كل شيء كما كان، كل شيء كما هو، فأرى صديقي (أمير) بملابس المدرسة ذاهب لمدرسته ووالدته تبتسم لي وتُلقي علي السلام،
وأنظر لأعلى لأرى السماء صافية والشمس مشرقة والطيور تُغرد، كل ما كانَ يجول بخاطري هو أن الحمد لله أن كل ما قد رأيت كان حُلم، وأن كل ما حدث لم يحدث، ظللتُ ابتسم واضعًا يدي على قلبي أشعر براحة واطمئنان، فكم هو شعور محبب لدي أن أشعر أنني أعيش مع كل من أحبهم، وأن الأرض مازالت تتنفس، وأن الحياة باقية إلى أمد أطول، فجاءَ والدي من خلفي يُربت على كتفيّ ويقول: لا تخف يا نوح فأنتَ بالبيتِ.
_النهاية.
بقلم/ هالة منير |آليك|.